عندما تكون المجزرة أنت بقلم / أ هاني جودة



عندما تكون المجزرة أنت

بقلم / أ هاني جودة
لم يكن فجر اليوم الأحد الرابع والعشرين من آب/أغسطس فجرا عاديا  بقدر ما حمل  معه أصوات شديدة الانفجار الناتجة من القصف المستمر بالبراميل المتفجرة  والقنابل الذكية من آلة الموت الاسرائيلية , هذا الفجر الذي أدخل شعاعه الى غرفة نوم الأم  راوية والتي بدأت كعادتها   بترتيب منزلها  وحديقتها المتواضعة والتي زرع بها الريحان والتفاح وكل شجر فواح  ولا تخلو من شجرة الكينيا التي يحب رائحتها الأب عصام حيث تذكره بصباه وشبابه وذكريات مدارس وكالة الغوث , نبتة الفلورا لم تستطيع الصمود في منطقة واحدة فامتدت  لكي تطعم الجيران من خيراتها , على حافة هذه الحديقة يوجد فرن خبز فلاحي  متواضع له أهميته خصوصا أوقات الحرب وانعدام غاز الطهي تسلل ضوء الفجر ليقول للأم الفلسطينية راوية : هل أنت صائمة عهدتك هكذا ؟  أجابت وهل تحلوا الحرب بلا صوم ,  كيف لا أصوم وهناك من يجوع ولا يجد شيئ يأكله  وهناك مشردون  بمراكز الايواء  يلهثون نحو علبة الطعام التي لربما تسكت الجياع المنكوبين تنفس الفجر الصعداء وقال حرب قد طحنت الايام ودمرت ما تبقي من ركام وانتي راوية تجهزين للحياة باصرار , قطفت الام من النعناع ما يكفي لغلوة شاي الافطار أيقظت تسنيم ورغد ومحمد وثائر ورهف وأسامة وابوهم عصام وغاب عن المائدة عبيدة الذي اصيب في بداية العدوان فذهب ليوم نقاهة خارج حدود اصابته ومصطفي الذي يصارع مجاهدا مثابرا كي يحقق حلمه وحلم اباه بتعلم الطب خارج حدود الوطن .
عصام مناضل سياسي فلسطيني معروف من القيادات الميدانية المعروفة في الانتفاضة الاولى والسجون الاسرائيلية رجل موقف يعجب بآرائه كل من يناقشه وان كان مخالفا له بدأ بتكوين اسرة نموذجية وطنية على طراز من الثقافة و التفاهم وعلي اساس النقاش الاسري البناء جميلة هي الاسرة التي يغازلها الفجر ويتقدم العطر دروبها ولا يخلو بيتها من الرياحين
وراوية ابن ايوب الغزاوي لها من مداد الصبر والحكمة ما جعل لسانها لا يتحدث الا بهما فأنت لو وجدت كرما شديدا بعصرنا لقليل علينا تسميتها حاتم ارتبطت وعصام بأمانة الفجر الذي يتسلل لغرفتهما كل صباح  بضيائه ينتقل شعاع الفجر لغرفة الاطفال لتسنيم ورغد اللتان هما علي بوابة اغلاق كونهما فتاتان لتدخلان بعد ثلاثة سنوات بوابة الصبيتان , تسنيم شرطية اللقاء والشاهد أنا وجدتها خضرة  لقبناها بذلك هامة لفتاة قوية تستحق أن تكون الصدر الحنون لأخوتها تارة وأم عطوف ومربية على سياسة الوالدين تارة أخرى , وعدها والدها عصام بشراء ملابس جميلة تليق بطولها لهذا العام الدراسي , ورغد عصام هي رغد المقاومة والمحبة أسماها والدها رغد لأنها ستفتح له بوابة رغد الحياة وجمالها  فكانت كما أراد وهو يدرك أنها معك دوما , الطفلان محمد وأسامة لا يحبان مفاجئة الضوء القادم من الشباك صباحا , وديعان جميلان  محمد يقارب بالشبه أباه أسماه تيمنا بأخاه الذي توفي طفلا عام 2002 ويحبه حبان , أسامة شعلة دعابة وجمال لا يهدأ كثير الحركة ذكي كأخوته , أسامة هو أسامة تحبه قبل محاثته وإن تكلم تساقط منه العسل , أسامة كان متلهف للذهاب للمدرسة فهو في الصف الأول الابتدائي , وحلم كثيرا في أن يقف في طابور المدرسة ويجلس على مقاعد الدراسة فكان يرسم كل ذلك في أوراق إلى حين افتتاح المدارس , وثائر هو من بلغ الرشد قبل أوانه لديه تسع سنوات على لسانه كلمات مرتبة حسب ما تربى , يأتي أبو رائد وأبو حسين وأبو الفضل والعديد من أصدقاء العائلة لزيارة منزلهم , الجميع يبهره ثائر , عندما تتحدث مع ثائر أنت تحادث ثورة فتى وجمال روح , تفوح حولك مجددا رائحة الريحان المنتشر في المكان , ثائر بكلماته دوما يثير هدوء الأزهار فتتحرك طربا , المكان يحكمه البطل ثائر , أسمته العائلة ثائر تيمنا بعمه الشهيد الكبير ثائر , فهو مقاومة وأصالة استمدها  من معاناة والده مع الاحتلال , مصطفى الأخ الكبير والأب الثاني منقطع النظير في الاجتهاد منذ الصف الأول الابتدائي وهو يقول " أنا دكتور" واليوم يدرس الطب خارج حدود الوطن تربى على العزة والكرامة لعائلة سقط أول شهيد لديها في العصر الحديث عام 1917وما زالت تقدم , عبيدة الثاني في الذكور سنداً لوالده يتمناه أن يبقى دوما غصنا لمحبة والوفاء لديه من القلب وطيبته  ما يسع الأسرة يجمع دوما وحلقة وصل ومودة , رهف فتاة جميلة ذات الرداء الأحمر على رأسها طوق ووردة حمراء زهرة البيت , جميلة دعوبة ضحوكة مجتهدة ذكية الأولى على الحساب العقلي دوما .

موعد مع المجزرة

ما زال الفجر يطوف بحذر على المنزل الرابع والعشرين من أغسطس ومع تواصل الحرب المدمرة على غزة والتي أعتبرت الأطول في العصر الحديث بل والأعنف فاسرائيل لم تخوض حرب بكمية السلاح هذه ولا بعدد الأيام ذاك , لا كهرباء ولا ماء حي تل الزعتر بمخيم جباليا كان مسرحا للعديد من الأحداث حيث قصفلا يهدأ على أرض دبور خلف البشير نزح السكان من تلك المنطقة ,عصام يصبر الجيران والأهل يقول " لانريد تكرار نكبة عام 1948 لا تخرجوا من منازلكم اصمدوا اصبروا " قاد ومجموعة من الوجهاء والأصدقاء  حملة توعية في هذا المضمار ومنزله لا يخلوا من الأقارب والأصدقاء ودوما عامر بالمحبة , ومع تمام الساعة الرابعة بتوقيت ضوء المنزل الأم تجلس على مدخل بيت المعيشة الداخلي للمنزل بمواجهة الحديقة ومن حولها تسنيم ورغد شأن البنات والتصاقهن بأمهم وعلى ظهر الأم محمد وعلى يمينها أسامة بمشهد عائلي ربما يحمل يقين الفراق الجماعي , ورهف أمام أمها وثائر ذهب بعيدا عنهم بإتجاه برميل المياة المعدنية لسبعة أمتار فقط , نعم لقد كان عطشانا , دخل الوالد عصام المنزل فهرعت اليه رهف أصبح عصام داخل مبنى المنزل وما أن دخلت رهف حتى بدأ الحوار الأسري الأخير , الأب يكلم من على بعد يسير يفصل بينه وبين أسرته حائط واحد  يتوسطه شباك يسألهم عن الغداء الذي سيصنعه لهم هذه المرة بمساعدة الفجر الذي سيخبئ نصيب راوية لافطار المغرب  , لم يسمح لهم المجرم المحتل أن يستكملوا حوارهم حتى سقط صاروخ الموت الذي أثار ضجيجا كبيرا وهز المكان بأسره , ثواني طويلة جدا رهف تصرخ ماما " ماما" وأبوها اقرب كانت بحضنه مرتعشة بهذه الثواني الطويلة لم تتضح الصورة بعد , أين الصاروخ لم يجيب الا شضايا زجاج الشباك التي تفجرت داخل المنزل وقوة ضغط الهواء  , أطول لحظات بعمر الأب ثلاث أمتار بينه وبين مصير أمامه , خرج مسرعا  وهو يحتضن رهف وما أن وصل الباب حتى شاهد اسرته قد استشهدت على الفور  أجسام بريئة  مقطعة بشكل  اجرامي ,
اسطوانة الغاز كانت على مقربة من الشهداء أغلقها الاب شظايا الصاروخ دخلت الاسطوانة دون حدوث انفجار , أغلق عيون رهف  انبعث صوت ٌ من بعد أمتار " يابابا الحقني " "  يا بابا الحقني " فإذا بثائر  الذي كان ذاهب بإتجاه برميل المياه مصاب اصابات بالغة وقد حرق الصاروخ وجهه وصدره الجميل حمله ابوه بغير وعي  محتضنا قدمه اليمنى بقدر المستطاع حتى لا يفقدها فقد كانت جلدة ضعيفة تحملها  ,  استمرت رهف بمسك والدها حتى اخرج ثائر ووضعه على مقربة من الباب الخارجي منتظرا سيارة الاسعاف , العائلة  والجيران يتهافتون للمساعدة انها مجزرة , رهف لا تترك أباها استمرت بمعانقته مشاهد يعجز الوصف أن يدرك حجمها ولا أستطيع انا كتابتها رحمةً بالأحياء من الأسرة , السيارات المدنية وسيارات الاسعاف نقلت الشهداء الى مستشفى العودة ومستشفى كمال عدوان شمال القطاع , رهف أمنها والدها في منزل الجار أبو الفضل الهشيم , العائلة جزء منها يؤمن المنزل وجزء ذهب لتفقد الشهداء , الأب على بوابة مستشفى العودة يوصي على ثائر انتبهوا لثائر تعامل بصبر وحزم ورباضة جأش , أحد الكاميرات تتقدم نحو الاب وهو جالس تصوره , ينتفض ويقول في وجه الكاميرا , لا تصورني وأنا جالس أنا لم أطأطأ راسي في حياتي الحمد لله على مصابي , ومهما يكن من أمر  وقد شاهده بعينيه وضع وشكل اصابة زوجته راوية وابنائه الأربعة  الا أنه لم يتخيل أن يزف أحدهم له خبر استشهاد أسرته , جائه الخبر الأول , زوجته وأسامة , ذهب اليها وقال "بدك تتركيني لحالي" وينظر اليها ولسان حالها يقول تمسك بأمانة الفجر التي بيننا , ذهب وودع محمد وأسامة وتسنيم ورغد يقول : اليهود الملاعيين قصفوا ابنائي كلهم انتهوا لثائر , تقدمت نحو ثائر فإذا به قد أصابه من القصف ما يؤلم وأكثر سألته يا حبيبي هل تعرفني أجاب ( أه هاني خليك معي ما تروح ) زلزال أصاب العائلة انها المجزرة التي كنا نسمع عنها في الكتاب والتلفاز تحل بنا انها المجزرة التي كنا نصبر أبناء شعبنا التي تلم بهم انها المجزرة التي جائتنا بفعل آلة الارهاب الاسرائيلية , الخمسة شهداء " راوية تسنيم رغد أسامة محمد " التقوا جميعا في مستشفى كمال عدوان وذهب الجمع الغفير للتشييع والصلاة ودفنهم في مقبرة الفالوجا بمخيم جباليا , أسامة الصغير وبوقت دعابة مع أمه يقول لها " انا بدي اموت جنبك وأكون معك" وقد دفن بنفس قبر أمه , طائرات الاستطلاع الغادرة لم تفارق الجنازة وكأنها لم تشبع من قتل الأسرة , ذهبت الأسرة وبقي عصام ومصطفة وعبيدة ورهف وثائر الذي لا يعلم ما الذي حدث لإخوته وأمه، ويسأل عنهم دوما، فيما يجيبه والده "بأنها بخير ولا تزال تتلقى العلاج في مشفى آخر .

في المشهد الأخر

في الحرب الأخيرة على غزة
قتل الطفل الإسرائليي في "ناحل عوز" نشر الإعلام الإسرائيلي صوره وقصته وأحلامه وطموحاته وابرز معاناة عائلته على فقدانه، وقد جيشت اسرائيل العالم لهذا الطفل بينما  هل سيتعاطف العالم مع ثائر كما تعاطف مع الطفل الإسرائيلي:؟ والجواب لا، لأن الإعلام العربي و الفلسطيني لا يخوض بتفاصيل كل شهيد وجريح , بل أصبحت دمائنا رخيصة لا نجيش العالم لها و معادلة بسيطة مقابل مقتل طفل إسرائيلي أبادت إسرائيل 90 أسرة فلسطينية وأودت بحياة 600 طفلا و320 سيدة و120 مسنا،  فمن المجرم و من يجب ان يقدم لمحكمة الجنايات الدولية كمجرمي حرب ومتى تستطيع عائلة ثائر اخباره عن وفاة أمه وباقي الأسرة في ضل وضعه الصحي الخطير فربما تكون أصوات طائرات الموت الإسرائيلية قد هدأت من سماء غزة.. لكن أصوات الفراق والأنين مازالت تسكن في نفوس أهلها .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أبحاث ودراسات