أثر تجارة الرقيق عـــلى أفريقيا إعداد الباحث / هاني جودة



دراسة حول/
أثر تجـــــارة الرقيق عـــلى  أفريقيــــــــا




               
                                      إعداد الباحث / هاني جودة
                            







تجارة العبيد هي أحقر تجارة عرفتها البشرية. لعب فيها مجموعة من البشر المتوحشين أدواراً همجية في قنص العبيد وبيعهم وقد استمرت هذه التجارة- الجريمة بتأثيرها المدمر على السكان في إفريقيا لمدة أربعة قرون كاملة حتى تيقظ الضمير الإنساني للقضاء عليها في مطلع هذا القرن.


البرتغاليون وذهب السودان
وقد حرص البرتغاليون في بادئ الأمر على البحث عن الذهب الإفريقي، وبالذات ذهب السودان الذي كان ينقل عبر الصحراء الكبرى متجها إلى شمال إفريقيا. ونظرا للمخاوف التي كانت تتملكهم في البداية من التوغل داخل القارة الإفريقية بسبب جهلهم بطبيعة هذه القارة وبسبب الحرارة الشديدة وكثرة انتشار الأمراض والحشرات الاستوائية (كالبعوض وحشرة التسي سي) فقد لجأوا إلى سياسة انتظار القوافل وهي تمر عبر الصحراء الكبرى ومهاجمتها. وكانوا يبادلون الذهب الإفريقي بقطع من الزجاج والخرز والخمور. وكان حصن المينا الموجود في غانا مركزاً لتجميع كميات الذهب المنهوب. وقد أطلق اسم " ساحل الذهب " على الإقليم الذي كانت تصدر منه كميات الذهب المنهوب إلى البرتغال. ورغم المغانم التي حصدها البرتغاليون من السيطرة على طريق القوافل التجارية والاستيلاء على الذهب الإفريقي، إلا أن حلم الوصول إلى الهند عن طريق الدوران حول إفريقيا ظل يلهب حماس البرتغاليين. وقد تمكن الملاح الشهير بارثلميو دياز من الوصول إلى أقصى الطرف الجنوبي لإفريقيا عام 1486 وسمي هذا الطريق " برأس الزوابع " نظراً لعظم المخاطر والأهوال التي عايشها عند هذا الطريق.
وفي تلك الآونة، كان الإسبان، من خلال رحلة كريستوفر كولومبس، قد وصلوا إلى جزر الهند الغربية في عام 1492، وشاع آنئذ أنهم قد توصلوا إلى اكتشاف الطريق نحو الهند من خلال الإبحار غرباً وأنه أقصر من الطريق الطويل الذي يبحث عنه البرتغاليون بالدوران حول إفريقيا.
ولهذا أوقف البرتغاليون كشوفهم البحرية في هذا الطريق وسارعوا بإرسال بعثة بحرية للاتجاه غرباً واستقرت على شواطئ البرازيل. ثم تبين أن الأراضي المكتشفة غرباً ليست هي الهند. ولهذا لم يعول البرتغاليون كثيراً على المنطقة الجديدة التي اكتشفوها في أمريكا الجنوبية، وظلت مهملة منهم لمدة ثلاثين سنة، رغم إعلانهم تبعيتها للبرتغال، بينما سارع الإسبان والفرنسيون، والإنجليز بعد ذلك، بزيادة رحلاتهم إلى تلك الأراضي المكتشفة حديثاً في أمريكا الجنوبية. ولهذا عاود البرتغاليون رحلاتهم القديمة بالدوران حول إفريقيا. وأرسل عمانؤيل ملك البرتغال الملاح الشهير فاسكو دي جاما فتمكن من اجتياز رأس الزوابع (وأسماها بعد ذلك طريق رأس الرجاء الصالح). واستمر في الإبحار حول الشواطئ الشرقية لإفريقيا تمهيداً للإقلاع نحو الشرق- نحو الهند-. وقد لاحظ فاسكو دي جاما على هذه الشواطئ، على عكس الشواطئ الغربية لإفريقيا، أن موانيها مزدهرة، وتكثر فيها السفن التجارية، وأن بها أسواقاً على درجة عالية من التنظيم والتقدم، وأنها تعج بسلع ومنتجات الشرق الأقصى (التوابل والبهارات والمنسوجات الحريرية والأحجار الكريمة..). كما أن سكانها يعيشون في مستويات أفضل من سكان غرب إفريقيا، وأن التجار العرب يسيطرون على شطر كبير من هذه الشواطئ والمواني. وأخذ فاسكو دي جاما يسأل عن الطريق البحري للهند في الثغور التي رسا عليها، لكن الجميع كانوا يرفضون التعاون معه وتقديم النصح له، نظراً لتخوفهم من القوة التنافسية المحتملة لهذا القادم الأوربي. بيد أن فاسكو دي جاما يستمر في الإبحار، إلى أن وصل إلى مدينة ماليندي (تنزانيا) على الساحل الشرقي الإفريقي وواصل بعد ذلك رحلته نحو الشرق، بمساعدة بحار عربي شهير، هو أحمد بن ماجد، ووصل إلى ساحل الملبار ومدينة كاليكوت الهندية في 27 مايو 1498، وهي المدينة التي كانت تعتبر آنذاك مركز تجارة التوابل.
هكذا تمكن البرتغاليون من الوصول إلى الهند عن طريق الدوران حول إفريقيا. وكان ذلك يمثل انقلاباً عظيما في موازين القوى العالمية آنذاك. فمن الآن فصاعداً سيتحول طريق تجارة التوابل والسلع الشرقية من مصر والشام والبحر المتوسط، إلى المحيط الأطلسي وحول الشواطئ الغربية لإفريقيا. وسيؤثر ذلك تأثيراً مدمراً على مصر والبلاد العربية والتجار الإيطاليين. وسيفلح البرتغاليون في فرض سيطرتهم على المحيط الهندي بعد أن هزموا المصريين في موقعة " ديو " أمام مدينة بمباي في عام 1509. وستعجز الدولة العثمانية بعد ذلك عن استعادة مجد التجارة العربي.
التوغل إلى منابع الذهب
صحيح أن إفريقيا لم تكن في البداية هدفاً عند البرتغاليين، وإنما كانت وسيلتهم بالدوران حولها للوصول إلى الطريق المباشر للتجارة مع الهند والشرق الأقصى، إلا أن حجم المغانم والثروات الهائلة التي حصدوها من إفريقيا كان هائلا، وكان ذلك يغريهم على ترسيخ سيطرتهم على سواحلها وتثبيت الحكم البرتغالي فيها، وأجبروا السكان على دفع الجزية وفرضوا عليهم ألا يشتروا أو يبيعوا إلا معهم، وبالشروط المجحفة التي يحددونها. وقد أقام البرتغاليون عدداً كبيراً من الحصون والقلاع المسلحة بهدف حماية مخازنهم التجارية ومنهوباتهم. وكان أشهر هذه الحصون سان جورج دي مينا، وساو تومي، واكرا، وحصن أرجوبم وجزر الرأس الأخضر وسنتياجو وممباسا وسوفالا وموزنبيق.
وكان تركيزهم الأساسي في البداية منصباً على البحث عن الذهب الإفريقي. وبعد سيطرتهم على طريق القوافل التجارية المحملة بالذهب والسلع الإفريقية عبر الصحراء الكبرى والاستيلاء على كميات كبيرة من الذهب الإفريقي الذي كانت تحمله هذه القوافل، حاول البرتغاليون التوغل إلى منابع إنتاج الذهب في زمبا، وطردوا العرب، وأجبروا السكان المحليين على العمل في مناجم الذهب بأساليب غير إنسانية. لكن المغانم التي حققوها في هذا المجال ستكون أقل أهمية من حجم المغانم الضخمة التي سيحققونها من التجارة الواسعة التي سينغمسون فيها في مرحلة تالية وتحقق لهم أنهاراً متدفقة من الأرباح، ونعني بذلك تجارة الرقيق الأسود وهي التجارة التي ستنافسهم فيها إسبانيا وبريطانيا وهولندا وفرنسا.
وتشير مصادر التاريخ المختلفة إلى أن القارة الإفريقية قبل مجيء البرتغاليين إليها لم تكن في حالة عزلة، كما كان الحال بالنسبة للهنود الحمر، بل كانت تربطهم بالحضارة العربية والآسيوية صلات قوية، فتفاعلوا مع شعوب هذه الحضارات، وتأثروا بهم، وتاجروا معهم، واستفادوا من صلاتهم مع هذه الشعوب، وبالذات مع العرب المسلمين الذين كانوا قد سيطروا على الشمال الإفريقي كله في القرن السابع الميلادي وعلى كثير من السواحل الشرقية لإفريقيا. من هنا فقد شارك الأفارقة في تجارة المسافات البعيدة مع غيرهم، واستطاعوا من خلال مبادلتهم للسلع الإفريقية (العاج، الريش، الذهب، الجلود.. إلخ) أن يؤمنوا كثيراً من احتياجاتهم. ويبدو أنهم قد تعاملوا قبل مجيء البرتغاليين مع غيرهم من موقع الند للند والمساواة والتكافؤ في التعامل.
وفيما يتعلق بالأحوال الاقتصادية والسياسية الداخلية، قبل مجيئ البرتغاليين، فإن مراجع التاريخ تشير إلى أن الأفارقة قد تعلموا فنون الصيد والقنص والزراعة، واستخدموا الحديد في كثير من مناطق القارة الإفريقية، وعرفوا زراعة كثير من الحبوب المقاومة للجفاف. وكان ذلك واضحاً في المناطق التي عاشت فيها قبيلة البانتو التي سيطرت على مساحات كبيرة من القارة، وتقاسمت السيطرة مناصفة مع قبائل البوشمان والقوقازيين والأقزام.
ويقول المؤرخ الدكتور زاهر رياض عن ثقافة المجتمع الإفريقي عندما غزاه البرتغال: " كانت البلاد بلاد سلام إلى حد ما، عاش فيها الناس في رغد، وكان الملوك ينتمون إلى طبقة صانعي الحديد، كما عرفوا منافع النحاس. وخلدت فنونهم في النقش الدقيق على الخشب والعاج وفي نسج سعف النخيل وفي الموسيقى والرقص. وكانت هذه الفنون كلها جزءاً من الحياة اليومية. وكانت ديانتهم مصوغة في قالب واضح بالنسبة للمجتمع القبلي الذي يحيونه. فقد سلموا بوجود إله أعلى. وقوانينهم متعددة وكاملة من الناحية الاجتماعية تقوم على تأكيد الخير للمجموع على حساب مصلحة الفرد. وكانت مكافآتهم وجزاءاتهم محددة وواضحة ومفهومة من الجميع ".
على أن ذلك لا يعني، أن القارة الإفريقية، قبل مجيئ البرتغاليين، كانت مجرد " فردوس خالص " عاش فيه الأفارقة في سلام دائم ورغد مستمر. ذلك أنه نتيجة لتدني قوى الإنتاج وقسوة الطبيعة وشحها في بعض الأوقات، كثيراً ما كانت الحروب تنشب بين القبائل في صراعها حول الأراضي الخصبة والمناطق الغنية بالمنتجات. وكانت القبائل الأقوى المنتصرة تحصل عادة على غنائم حرب من القبائل المهزومة في شكل أسرى وعبيد. ولهذا، فإنه قبل مجيئ البرتغاليين في القرن الخامس عشر، عرفت بعض أقسام من القارة الإفريقية تجارة العبيد، وبخاصة في مناطق السواحل الشرقية للقارة (زنجبار، مورشيوس، وسيشل وجزيرة مدغشقر...) وهي الأقسام التي كانت خاضعة لسيطرة التجار العرب منذ القرن العاشر. ويقول الكاتب ك. س. ستافريانوس: " قاد العرب تجارة رائجة عبر المحيط الهندي مع مدن البحر الأحمر والقسم الجنوبي من شبه الجزيرة العربية والخليج العربي والهند وسيلان وجنوب شرق آسيا ومع الصين. وعمل العرب كوسطاء في تصدير العاج والنحاس والذهب والرقيق من داخل البلاد، مقابل السلع الشرقية، كالمنسوجات الرقيقة والجواهر والخزف الصيني. وتميز هذا التبادل بأن العبيد لم يكونوا سوى سلعة عادية ليست بالأهمية ضمن السلع الأخرى لانعدام الطلب الكبير عليهم في البلدان الشرقية التي كانت تمتك بالأيدي العاملة المحلية والرخيصة ".

تجارة مسعورة
كانت تجارة العبيد قبل مجيئ البرتغاليين إذن محدودة للغاية وتميزت ببعدها عن النزعة التجارية وبكونها نشطت في بيئة محلية وإقليمية وليس ضمن آليات السوق العالمية، كما سيحدث في فترة تالية. وكان العبيد يستخدمون عادة كجنود في الجيوش أو كعمال أو موظفين، كما كانت النساء منهم يعملن كخادمات في البيوت أو كمحظيات. ويقول ستافريانوس: "احتل العبيد منزلة اجتماعية دنيا، ولكنهم أحيانا يقترنون بالعائلات التي يخدمونها، مما يوفر لهم بعض الحقوق الفردية المشروعة. وأما الزواج بين العبيد وبين الأحرار من النساء والرجال فلم يكن محظوراً، وينال أحفادهم بعد الجيل الثالث شرف العضوية التامة حيث يتساوون بأقرانهم في تجمعاتهم ".
والحق، أن السعار المحموم الذي تميزت به تجارة العبيد كان مرتبطاً أيما ارتباط بنتائج الكشوف الجغرافية للعالم الجديد في نصف الكرة الغربي ووصول الإسبان والبرتغاليين ثم البريطانيين والفرنسيين، للاستيطان في هذا العالم واستغلال خيراته إلى أقصى مدى ممكن، وهو الأمر الذي اصطدم بأزمة الفراغ السكاني وشح عدد السكان، وبخاصة بعد إبادة الهنود الحمر، السكان الأصليين لهذا العالم. ففي القرن السادس عشر هبط عدد الهنود الحمر إلى مستويات خطيرة تحت تأثير ثلاثة عوامل جوهرية هي:

1-
الإبادة والقتل المباشر من قبل الأوربيين.
2-
الوفيات الضخمة التي حدثت من جراء الأمراض التي نقلها الأوربيون للهنود، مثل الجدري والحصبة والزهري..
3-
الإبادة التي حدثت للهنود الحمر في مناجم الذهب والفضة بسبب الاستغلال الوحشي والمميت لهم.
حدث هذا في المكسيك والبرازيل والبيرو وفي مختلف المناطق التي احتلها الأوربيون الذين كانوا قد عقدوا العزم على استمرار استغلال مناجم الذهب والفضة والاستفادة من الأراضي الخصبة لهذا العالم الجديد بزراعتها بكثير من السلع الاستوائية التي كانت تحتاجها أوربا، مثل قصب السكر والدخان والقطن والحبوب.. إلى آخره. فكل هذا احتاج إلى آلاف من الأيدي العاملة والأجساد القوية، في حين كانت هناك ندرة بشرية بعد إبادة الهنود الحمر بشكل وحشي. وحتى ندرك حجم الإبادة التي اقترفها الأوربيون للسكان الأصليين، لننظر، على سبيل المثال، إلى حالة المكسيك. فقد قدر عدد سكان المكسيك عشية الفتح الإسباني بحوالي 25 مليون نسمة، بينما بلغ في عام 1600 حوالي مليون نسمة، كما يشير إلى ذلك الباحث تزفيتان تودوروف.

مشكلة الأيدي العاملة
وللتغلب على مشكلة نقص الأيدي العاملة، قامت الحكومات الأوربية، في بادئ الأمر، بالإفراج عن المجرمين والمسجونين وإرسالهم إلى هذا العالم الجديد للعمل في المزارع الواسعة ومناجم الذهب والفضة. بيد أن عدد هؤلاء كان صغير ولا يفي بالحاجة. ولهذا فقد تفتحت قريحة أصحاب رءوس الأموال وسعيهم المحموم للربح عن فكرة صيد البشر من إفريقيا وشرائهم من الحكام ورؤساء القبائل والتجار العرب المشتغلين بالنخاسة مقابل تعويضهم ببعض السلع الكمالية الاستهلاكية، كالخمور والمنسوجات والأسلحة والعقود، ثم شحنهم كالبضائغ المادية، عبر المحيط الأطلسي من غرب إفريقيا للعمل كعبيد في المزارع والمناجم.
وقد وصلت أول شحنة للعبيد الأفارقة إلى جزر الهند الغربية في عام 1501، أي بعد تسع سنوات فقط منذ أول رحلة قام بها كريستوفر كولمبس. ثم توالت الشحنات بعد ذلك بشكل هائل، خاصه بعد أن دخل ساحة هذه التجارة اللعينة الإسبانيون والبريطانيون والفرنسيون والهولنديون. وتكونت شركات تجارية دولية كبرى للعمل في هذا المجال، مثل "شركة جزر الهند الغربية الهولندية" التي تآسست عام 1621، وشركة "السنغال الفرنسية في غرب إفريقيا".. إلى آخره. ونظرا لشدة التنافس الذي نشأ بين هذه الشركات، فإن أصحاب كل شركة قد لجأوا إلى وسم رقيقها بعلامات خاصة بالكي في مكان ما في أجسام العبيد، تماما مثل الماشية. وربما كان ذلك هو الأصل في فكرة "العلامات التجارية Trade Markفي النظام الرأسمالي. من هنا، ما أصدق ما يقوله بعض الباحثين حينما لاحظوا، أن تجارة الرقيق كانت في الحقيقة هي أول استثمار دولي لرأس المال على نطاق واسع. فمعدل الربح، على الصعيد العالمي لهذه التجارة كان هائلا (يقدره الاقتصادي البريطاني موريس دوب فيما بين 100% و 300%). وقد أثرى كثير من تجار الرقيق الأوربيين من استثمار أموالهم قي شراء السفن المستخدمة في نقل العبيد. بل إن الأرباح التي تحققت من هذه التجارة الحقيرة كانت تفوق بكثير معدلات الأرباح التي تحققت من تجارة التوأبل والمنتجات الشرقية.
وقد مارس البرتغاليون في بادئ الأمر عملية القنص المباشر للعبيد من داخل إفريقيا وتولوا بأنفسهم مهمة قيادتهم للسواحل، و "تخزينهم" في الحصون والقلاع إلى أن يتم نقلهم بالسفن عبر مستعمراتهم بالعالم الجديد. وقد مارس في ذلك أبشع وأقسى وسائل العنف والوحشية وبالذات في أنجولا والكونغو وغينيا وغانا وموزنبيق. بيد أنه سرعان ما واجهتهم، كما واجه غيرهم، مقاومة النخاسين الأفارقة والعرب الذين كانوا يخشون أن ينافسهم النخاسون الأجانب في أرباحهم باعتبارهم وسطاء في هذه التجارة. ولهذا فقد تفاوض هؤلاء النخاسة مع الأوربيين للتعاون، عن طريق أن يقوم الأوربيون بإمداد هؤلاء النخاسين بالسلع والبنادق والذخيرة والخمور، ثم يتولون هم التوغل إلى قلب القارة ويعودون بالعبيد المتفق على عددهم ونوعيتهم. ويتم تسليمهم وإيداعهم بالحصون إلى أن تأتي السفن لشحنهم إلى المناطق التي اتفقوا على توريدها. وقد وجد الأوربيون في ذلك أمرا أفضل، فقد جنبهم ذلك مشقة القنص والتعرض للرطوبة والحرارة الشديدة، والحشرات الاستوائية والأمراض المتوطنة داخل القارة الإفريقية. ولهذا كانت "سياسة انتظار قوافل العبيد" هي السمة المميزة للحصول على العبيد في الفترة ما بين القرن السابع عشر والتاسع عشر. وهكذا انطلقت تجارة النخاسة، وأشعلت في القارة الإفريقية حروبا مستمرة مع الطلب المتزايد على العبيد. فقد انطلق زعماء القبائل، يمولهم في ذلك النخاسون، في شن غارات مستمرة على جيرانهم لأسر أكبر عدد من الرجال والنساء والأطفال وتسليمهم للنخاسين وقبض الثمن، الذين يتولون بدورهم توريدهم للنخاسين الأوربيين والحصول على عمولتهم. وفي أثناء ذلك كان هناك آلاف الضحايا الذين يسقطون في أثناء غارات القنص. وفي بعض الأحوال التي كان يلجأ فيها العبيد للاختفاء في الكهوف والمغارات كان النخاسون يوقدون النار عند مداخلها في القش وأغصان الشجر، فيرتفع الدخان الكثيف حتى يجبرهم الخوف على الخروج قبل الاختناق.

الرحلة إلى المجهول
وقد أشار الباحثون في هذا المجال إلى الطرق الوحشية التي مارسها النخاسون داخل القارة الإفريقية. ولنقرأ، على سبيل المثال، ما كتبه جون هنريك كلارك ومنيست هاردنج في هذا الخصوص: "كانت طريقة اقتناص الرقيق تتسم بالوحشية والتناهي في القسوة. وكانت الوسيلة المتبعة هي حرق القرى وقت السحر والسود نيام، ثم يخطفون وهم يحاولون النجاة من النيران". ثم يقوم القناصة بعد ذلك بتجميع الصيد الثمين، حيث يربط بالحبال كل اثنين معا ويشكلون صفا طويلا يجمعهم عمود خشبي كبير يربط في أعناقهم. وبعد ذلك تبدأ رحلة الاتجاه نحو السواحل. وكان خط القافلة يمتد لعدة مئات من الأمتار، يقودها فرد، أو أكثر، حاملا سوطا يضرب به بقسوة كل من يتباطا في السير. ويقول الدكتور زاهر رياض: "كان الضعفاء يسقطون إعياء فيقتلون أو يتركون ليلقوا مصرعهم. وقد ظلت عظام هؤلاء المساكين الذين لقوا حتفهم في الطريق علامات توضح الطرق التي سلكها هؤلاء التعساء حتى القرن التاسع عشر". كما وصف الرحالة الشهير لفنجستون في كتاباته عن اكتشاف منابع النيل، وبشكل تقشعر له الأبدان حالة القهر والقسوة والعذاب التي كان يعاني منها الرقيق وهم في رحلة التوجه إلى مصيرهم المجهول على السواحل.
وما أن تصل القافلة التعيسة للسواحل، حتى يتسلمهم النخاس الأوربي ويقوم بفحص العبيد ووشمهم بعلامته المميزة بسيخ محمي بالنار، ثم يودعون بالحصون والقلاع انتظار، لرحلة العبور نحو العالم الجديد. وكان لا يعطى لهم من الزأد سوى أقل القليل.
وحينما تأتي السفينة يقذف بهم إلى داخلها بقسوة وهم عراة. ونظرا لارتفاع تكلفة الرحلة التي تستغرق عدة أسابيع وهي تجتاز الأطلسي، فقد حرص ملاك السفن على صناعتها على هيئة مخازن ذات رفوف، يرص فيها العبيد وهم مصفدون في الأغلال، بعد فصل النساء عن الرجال. وكان شكل السفينة بعد شحنها أشبه بعلبة السردين. وكان أهم ما يشغل قبطان السفينة قبل الإبحار، هو إمدادها بالماء العذب (200- 250 لترا للعبد الواحد) وبثمار الموز والليمون لمكافحة مرض الاسقربوط وبزيت النخيل لمعالجة الأمراض الجلدية. وكانت لحظة الشحن والإبحار بالنسبة للعبيد هي اللحظة الأكثر عذابا وإيلاما للنفس.
فها هم ينتزعون من أوطانهم بالقوة، وستختفي حالا من أمام عيونهم شواطى بلادهم إلى الأبد، ولن يروا أقرباءهم وأحباءهم بعد ذلك.

قصب ومستنقعات وعبودية
عمل الزنوج العبيد في المزارع الكبرى الاستوائية التي تخصصت في زراعة قصب السكر والقطن والدخان في شمال البرازيل والمكسيك والبيرو وكوبا وهايتي وغيرها من المناطق وكان العمل يبدأ في ساعة مبكرة من الصباح إلى الساعة الواحدة ظهرا، ومن الساعة الثانية إلى مغيب الشمس. وكانت ظروف العمل بهذه المزارع غير صحية بالمرة. وتقول الكاتبة كاترين سافيدج: "كانت الأحوال في هذه المزارع الجديدة غير صحية مطلقا. إذ كان العبيد يشتغلون في أرض شديدة الحرارة وملأى بإلمستنقعات، وكانت مساكنهم مجرد حظائر، ولم يكن ثمة وجود للعناية الطبية. كان الكثيرون من أصحاب المزارع لا يعبأون بالإبقاء على حياة العبيد، إذ كان شراء العبيد الجدد أرخص من العناية بمن يقتنونهم إذا ما طعنوا في السن". كما استخدم عدد كبير من العبيد في مناجم الذهب والفضة محل الهنود الحمر(خصوصا في كولومبيا). كما عملوا في قطع الأخشاب وبعض المهن المرهقة، كالحدادة والنجارة وعمليات شحن وتفريغ السفن.. إلى آخره. وجزء منهم عمل في الخدمات المنزلية. وأيا كان الأمر، فإنه إذا عمل العبدفي أعمال تدر دخلا، فلابد أن يسلم الإيراد لصاحبه. وعلى وجه الإجمال كانت معاملة العبيد سيئة للغاية، فهم في نظر أصحاب المزارع والأعمال ليسوا إلا مجرد "آلات بشرية" ولا تتمتع بأية حقوق. فكان من حق صاحب العبدأن يقتله إذا أخطأ، وأن يبيعه وقتما يشاء.

حجم شحنات البشر
وقد يثور التساؤل عن حجم العبيد الذين صدرهم النخاسون من إفريقيا إبان شعار تجارة النخاسة في الفترة بين القرن الخامس عشر والقرن التاسع عشر. وهنا تتباين التقديرات، ولا يوجد اتفاق بين الباحثين بسبب عدم توافر بيانات يوثق فيها. كما أن هناك تقديرات مختلفة عن حجم "التصدير" خلال قرون بعينها. وأشهر هذه التقديرات هو تقدير الباحث فيليب كورتن، الذي قدر عدد العبيد الذين خرجوا من إفريقيا إلى العالم الجديد في الفترة 1451- 1870 بحوالي 9.3 مليون نسمة وقد رفع الرقم !لى 10.5 مليون للتحوط. ورأى باحثون آخرون ضرورة زيادة هذا الرقم بنسبة 20% ليصل إلى 12 مليون نسمة. وإذا أخذنا بعين الاعتبار ضحايا القنص داخل الغابات الإفريقية، ومن وقعوا شهداء في مسيرة الاتجاه نحو السواحل، بالإضافة إلى المفقودين في أهوال رحلة العبور، ممن غرقوا أو ماتوا على سفن الشحن، فالرقم الفعلي قد يتراوح ما بين 48 إلى 50 مليون نسمة والشطر الأكبر من هؤلاء كانوا في ريعان الشباب.
والحق، أن تجارة الاسترقاق الجماعي التي اتسمت بها مرحلة ما بعد الكشوف الجغرافية وكانت إحدى السمات الرئيسية لمرحلة الرأسمالية التجارية (الميركانتيلية) قد أحدثت آثار، مدمرة، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، على القارة الإفريقية. فمن ناحية أولى، أدت هذه التجارة إلى كارثة ديموجرافية في القارة، حيث هبط عدد سكان إفريقيا هبوطا مريعا إبان فترة شعار هذه التجارة. يكفي أن نعلم أنه طبقا للعلامة أ. م كار سوندارز (في كتابه الشهير: سكان العالم، أكسفورد 1956) هبط النصيب النسبي لسكان القارة الإفريقية من 3. 18% من إجمالي سكان العالم في عام 1650 إلى 7.4% في عام 1900. ومن ناحية ثانية، أدت تجارة العبيد الى حرمان القارة الإفريقية من الأيدي العاملة القوية في مختلف الأنشطة الاقتصادية، وبالذات في المجال الزراعي والمنتجات الحرفية، مما أدى إلى دمار شبه شامل في زراعة المحاصيل النقدية وتأخر نمو الصناعات الحرفية. كما أنه، من ناحية ثالثة، أشعلت تجارة النخاسة حروبا مدمرة وعداوات مستمرة بين القبائل والمناطق المختلفة للاستحواذ على العبيد. وضعفت، نتيجة لذلك، التجارة الإقليمية التقليدية بين مناطق إفريقيا المختلفة. وأخيرا،، وليس آخرا، فقد تعرضت القارة للسيطرة الأجنبية وفقدت دول كثيرة فيها استقلالها وأدمجت ضمن آليات السوق العالمية للرأسمالية. ويبدو لنا، أن ما تعانيه دول القارة الإفريقية الآن من فقر وجوع وبطالة وديون غير منقطع الصلة بهذا الفجر الدامي لعصر الرأسمالية التجارية الذي بدأ في القرن الخامس عشر.

عبيد هنا.. وثروات هناك
أما على الجانب الآخر من الصورة، ونعني بذلك الدول الأوربية، فقد أسهمت تجارة العبيد في تجميع ثروات هائلة لها. وكانت هذه الثروات مصدر، أساسيا من مصادر التراكم البدائي لعصر الثورة الصناعية. وبهذا الشكل كانت النخاسة واحدة من أهم عوامل تطور الرأسمالية. ولنأخذ هنا حالة إنجلتر(على سبيل المثال، باعتبارها كانت تتبوا مكان الصدارة في هذه التجارة في القرن الثامن عشر، حيث كانت تمتلك أكثر من 200 سفينة يعمل عليها عشرات الآلاف من البحارة والعمال وذلك خلال الفترة 1680- 1786. وكانت ليفربول ولندن وبرستول ولانكستر نقاط الحركة الدائبة لهذه التجارة الرائجة. وإبان هذه الفترة دارت عجلات الإنتاج في بريطانيا بسرعة هائلة لتوفر السلع التي ستعطى للنخاسة الأفارقة لشراء العبيد منهم. كان هذا هو حال الازدهار الذي شهدته صناعة البنادق والبارود وبناء السفن ومسابك الحديد التي وفرت السلاسل والقضبان الحديدية، وكذلك صناعة الخمور والمنسوجات. ولقاء هذه السلع كان العبيد يقتلعون من إفريقيا ليغرسوا في أمريكا للعمل الشاق في المزارع الكبرى التي سرعان ما ترسل خيراتها إلى بريطانيا (السكر، القطن، التبغ.. إلى آخره) فيزداد دخلها وقدرتها على استيراد المزيد من العبيد، ومن ثم زيادة رخاء بريطانيا وتسريع مرحلة الثورة الصناعية بها. إن كاترين سافيدج على حق تماما حينما تقول: "لقد أسهمت تجارة الرقيق في تحقيق الرخاء البريطاني بصورة بالغة. وكان ميناءا ليفربول وبرستول يثريان على حساب تجارة إفريقيا الغربية. كانت مصانع لانكشير تغزل القطن الوارد من المزارع الأمريكية، وكان الطباق والسكر يستوردان بمقادير كبيرة من جزر الهند الغربية البريطانية. وكل هذا الإنتاج كان ثمرة العمل الذي يؤديه العبيد. لقد شحن التجار الإنجليز عبيدا وحققوا أرباحا أكثر من أي شعب آخر". كما أن ميشال دوفير مصيب تما lا حينما لخص معا أ الصورة كما يلي: " إفريقيا تفقد كل عام الكثير من مواردها لصالح القارات الأخرى، فأمريكا تنال اليد العاملة، وأوربا تنال ريع هذه التجارة المخجلة".


وحينما تشبعت الدول الرأسمالية الأوربية تماما من هذه التجارة اللعينة وما وفرته لها من أيد عاملة مستعبدة ومن ثروات طائلة، اختفت الحاجة إلى هذه التجارة، وبخاصة بعد أن هبطت معدلات الربح فيها. وعقد مؤتمر برلين في 1884/ 5 188 وجاء ضمن مقرراته ضرورة تعاون الدول الأوربية للقضاء على هذه التجارة. واقتضى الأمر أن تتخذ بريطانيا من قوتها البحرية وسيلة لمحاربة آخر معاقل هذه التجارة في زنجبار والسودان، ولكن بعد أن كانت قد حصدت أكبر المغانم قاطبة منها.





ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع/


1- مجلة العربي الكويتية، العدد 406 - 1/9/1992م
2--تاريخ افريقيا الحديث و المعاصر المؤلف :الجمل، شوقى عطا الله.; ابراهيم، عبد الله عبد الرازق
3- بحوث ودراسات وثائقية في تاريخ أفريقيا الحديث تأليف: إلهام محمد علي ذهني، ط1.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أبحاث ودراسات