دراسة في... أصـول الفكـر المـاركسـي اعداد هاني جودة





دراسة في...
 أصـول الفكـر المـاركسـي
اعداد / هاني جودة




ان تقييم التجربة الماركسية، والفكر الماركسي، في مطلع القرن الحادي والعشرين يختلف عن تقييم اخر حصل قبل قرن من الزمان. فالتطور العلمي وما حمله من حقائق جديدة يقف وراء هذا المعطى في الدرجة الاولى. والدراسات الماركسية المتواترة كشفت عن تفاصيل كثيرة بحاجة الى دحض او تقويم او تعديل.. ناهيك عن التجارب الماركسية على ارض الواقع، وعلى المستوى الدولي، التي افضت الى نتائج جديرة بالدراسة والتأمل، ولعل سقوط الاتحاد السوفياتي - كصيغة فدرالية ذات ايديولجية ماركسية من المتغيرات الكبرى التي تعطي لاي تقييم جديد مناخا مختلفا لم يكن متوافرا حتى الامس القريب  , مصادر الماركسية ثلاثة:-
1- الفلسفة الألمانية.
2- الاقتصاد السياسي الانجليزي.
3- الاشتراكية الفرنسية.
. وهنا خمسة ملاحظات ستشرح لنا أصول الفكر الماركسي .

الملاحظة الاولى: تنطلق الماركسية فكريا من المادية الجدلية التي تعتبر بان المادة هي اساس الكون والوجود، وان المادية الجدلية هي التي تفسر التطور الكوني بما في ذلك الانسان. وان كافة الظواهر تخضع للدياليكتيك، اي ان هذا التناقض بين الشيء ونقيضه، الذي يولد لاحقا ظاهرة جديدة، او طفرة نوعية جديدة.
كل هذا الكلام كان قبل اكتشاف قانون النسبية الذي وضعه كبير علماء القرن العشرين انشتاين الذي اكد ان كل ما نلاحظه من قوانين ونواميس وقواعد علمية هي مجرد حقيقة نسبية، انها ليست حقيقة مطلقة. فكل شيء له تفسيره، وله احيانا من الحالات الشاذة التي لا تتلاءم معه. حتى في علوم الرياضيات والكيمياء والفيزياء لا توجد حقائق مطلقة بل ثمة حقيقة نسبية. الحقائق المادية اذا نسبية. ثم لو سلمنا بان المادة الاولى هي اساس الكون والوجود، فمن هو اذا الذي اوجد هذه المادة الاولى؟ وكيف وجدت؟ وعلى اي صورة؟ لا بد اذا من عوامل اخرى لم يكتشفها الدياليكتيك المادي تجاه هذه المسألة التي هي اساس الفلسفة الماركسية. وعندما تتحدث الماركسية عن نفي النفي، اي ان الظاهرة الجديدة التي تنفي ما سبقتها معرضة للنفي من قبل ظاهرة جديدة وهكذا دواليك باستمرار...
هذا الكلام يتناقض مع نظرية النسبية التي اقرها انشتاين. طبعا كان العلم في عهد كارل ماركس، اي من منتصف القرن التاسع عشر، يختلف عما هو بعد سبعين سنة، او مئة سنة، او عما هو عليه اليوم.

الملاحظة الثانية: متعلقة بحتمية الثورة الاشتراكية. لقد جزمت الماركسية بان الثورة الاشتراكية سوف تقوم في مجتمع صناعي، ورأت ان بريطانيا بمثابة البلد الاوروبي الاول المرشح للثورة الاشتراكية، لان بريطانيا كانت الاكثر تصنيعا في العالم الاوروبي. لكن الذي حصل هو غير هذا التوقع، وبما يتناقض في كثير من المحددات الفكرية مع الماركسية.

قامت الثورة الاشتراكية الاولى في الاتحاد السوفياتي، البلد الاقل تصنيفا، والذي يعيش مجتمعا زراعيا. وراحت تتوالى داخل الاتحاد السوفياتي التعديلات للماركسية من عهد لينين حتى سقوط الاتحاد السوفياتي رسميا في العام 1991، ففي العام 1922 تراجعت الثورة السوفياتية عن العنف والمواقف التي اتخذتها تطبيقا للماركسية بعد ظهور الازمة الاقتصادية والسياسية. وفي العام 1936 وضع دستور جديد تحدث عن قاعدة الحكم فاعتبرها ديكتاتورية البروليتاريا. لكن في العام 1956 اعلن خروتشوف في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي سقوط مذهب عبادة الشخص والعودة الى القيادة الجماعية. كان ذلك بمثابة انتقاد صريح للتجربة الستالينية. وفي العام 1977 وضع دستور جديد قال في مادته الاولى: "ان السيادة تنعقد للشعب كله". بناء على ذلك راحت المجالس الشعبية "السوفيات" تمارس السيادة، وتشجع على اشراك الشعب في الارادة العامة.

نستنتج هنا بان التطبيق السوفياتي للماركسية اللينينية قاد الى انتقال السيادة من ديكتاتورية البروليتاريا الى سيادة الشعب كله.
في مكان اخر لاحظنا دخول الماركسية الى الصين عام 1949 من خلال طبقة الفلاحين بالدرجة الاولى لا من خلال العمال الصناعيين، اكثر من ذلك اخذت الصين بمبدأ التعددية في ملكية وسائل الانتاج، وامنت بالتغيير السلمي في النظام الاجتماعي والسياسي، ما يتناقض مع حتمية العنف الثوري.


الملاحظة الثالثة: تتعلق بفكرة الدولة. من المعروف ان الفكر الغربي الليبرالي يعتبر الدولة كيانا مجردا او منعزلا عن ظروف المكان والزمان، اي ان الدولة حاجة تتطور وفقا لتطور المجتمع. اما الفكر الماركسي فانه راي في الدولة كيانا منبثقا من داخل المجتمع بما فيه تفاعلات طبقية واجتماعية. اي ان الماركسية ساهمت في كشف خطأ الفكر الليبرالي الذي يعتبر الدولة كائنا مجردا، لكن الماركسية لم تنتبه الى وجود قوى خفيفة صاعدة وفاعلة واكثر قدرة على التكيف غير الدولة كالقوى الاجتماعية والاقتصادية التي صارت اليوم شركات متعددة جنسية مسيطرة على النظام العالمي من خارج الدولة، واحيانا من خارج القانون الدولي.

وعندما دعت الماركسية الى وحدة السلطة، والى السلطة الواحدة، كشفت الممارسة عدم وحدة السلطة حتى في الاتحاد السوفياتي. ومع انتقال جزء من السلطة الى المنظمات الاجتماعية. وعندما ربطت الماركسية بين القومية وصعود البرجوازية الصناعية بقيت القومية في الاتحاد السوفياتي نفسه رغم النظام الماركسي، بل اكثر من ذلك ظهرت قوميات تحررية في بلدان العالم النامي في القرن العشرين لا علاقة لها بالبرجوازية الصناعية. ولا نغالي اذا قلنا بان الظاهرة القومية من خلال ما تعرضت له القوميات من قهر هي سبب من اسباب سقوط الاتحاد السوفياتي لاحقا.

في الواقع ان الشمولية الماركسية صادرت كل اوجه حياة المجتمع، عندما باتت الدولة تعبيرا عن العلاقة بين مختلف القوى المسيطرة في المجتمع، وعندما قيدت الحريات العامة وحقوق الانسان خاصة على الصعيد السياسي. فلا معارضة ولا احزاب سياسية خارج سلطة الحزب الشيوعي المركزي.


الملاحظة الرابعة: تتعلق بالشيوعية. لم يجب الماركسيون عن السؤال متى تتحقق الشيوعية على الارض؟ متى يصل المجتمع الاشتراكي الى المجتمع الشيوعي؟ لذلك رأينا في مرحلة الحرب الباردة كيف اعترف القادة الماركسيون ان الشيوعية بعيدة المنال، ولا بد من التعايش مع الواقع بما فيه من قوى رأسمالية واشتراكية.
ثم لا يتحدث الماركسيون عن مرحلة ما بعد الشيوعية فهل ان الشيوعية هي نهاية التاريخ والكون؟
ان التحليل الماركسي للظاهرة الشيوعية لا يعطي اجابات عن هذه الاسئلة، فضلا عن تصور تخلي الناس عن الدين والقومية والاسرة وعالم الافكار والعواطف... الخ وكأن المرحلة الشيوعية هي مرحلة مصادرة كل هذه العوامل المؤثرة في الانسان والمجتمع والدولة، وبذلك وقعت الشيوعية في مطب او فخ المثالية، فطرحت تصورا مستحيل التحقيق والتطبيق، وتركت الامر للمادية التاريخية كي تفعل فعلها في ضوء حقائق الصراع الطبقي.
لقد انتقد ماركس مثالية الفيلسوف هيغل الذي انطلق من عالم الافكار والمثل، ولكن ماركس في المقابل وقع في اشكالية المثالية المادية البعيدة عن الروح والعواطف وعالم الافكار والدين والعلاقة الاسرية... الخ

الملاحظة الخامسة: تتصل بالاممية. كان من الطبيعي ان يقود الاختلاف في تفسير الماركسية عند الماركسيين الى خلاف سياسي بين الدول التي تدين بالولاء للماركسية. وكثيرا ما كشف الخلاف الصيني - السوفياتي عن هذا المنحدر، وعطل امكانية قيام تحالف، او تكامل، اممي بين الدول ذات الانظمة السياسية الماركسية.
ان مثل هذا الاختلاف حصل بعيد الثورة البلشفية سنة 1917، وتحدث عنه كتاب ماركسيون كبار، منهم على سبيل المثال الداعية البلجيكي اميل فاندرفيلد الذي رأى بوضوح: "هناك ماركسية وماركسية.. ماركسية ضيقة مبسطة، تزعم ان تظل مقيمة على حالتها الاولى او ان تعود الى اصولها، فتنتهي الى ان تصبح مجرد اساليب كان يمكن تطبيقها في وقت من الاوقات، غير انها اصبحت لا تتفق مع الحقائق المتغيرة للحياة الاجتماعية، على ان توجد عكس ذلك ماركسية ترمي دائما الى ان تتفوق على نفسها، وان تلائم التباينات الشديدة للاوساط المختلفة، والتغيرات العلمية، والتحولات العميقة التي تنميها جهود العمال فيما يتعلق بالتنظيم السياسي والاجتماعي".
لا بد من القول، مهما كان تقييمنا للماركسية، ان هذا المذهب في الفكر والفلسفة والاقتصاد والسياسة ساهم الى حد بعيد في كشف اوجه الاستغلال الرأسمالي، وسلبيات الانظمة السياسية الليبرالية في مرحلة كانت تشهد اوروبا مرحلة الثورة الصناعية الاولى. فالماركسية اولا هي بنت المجتمع الاوروبي، بما فيه من اوضاع اقتصادية واجتماعية. وما ينطبق عليه من محددات اقتصادية واجتماعية وسياسية قد لا تنطبق على مجتمعات اخرى في العالم في اوضاع مختلفة وظروف مختلفة.
أخيرا :
ان سقوط الاتحاد السوفيتي، ثم سقوط الانظمة الماركسية في اوروبا الشرقية، شكل بالنسبة للماركسية الضربة الاقوى في التاريخ الحديث , لقد اتهمت الماركسية في كثير من المجتمعات والدول بانها شبح مخيف يجب ازاحته عن كاهل المجتمعات والشعوب، ولكن ان سقوط الماركسية على مستوى النظام السياسي لا يعني انتصار الليبرالية، وفي الوقت ذاته يجب ان لا يقودنا هذا المتغيّر الكبير الى التنكر للفضل العلمي الذي اعطته الماركسية للانسانية في مرحلة تحول كبرى، نعني بها التحول الى الثورة الصناعية ولكن من الجدير قوله ان الماركيسة كفكر عميق لا تستطيع ان تدوم كما لاحضنا في المجتمعات العربية الاسلامية ذات الخلفية العقائدية  وسقوط الماركسية في موطنها كان الطامة الكبرى لهذه الصفحة التي ستطوى وستوجع الى جانب الارث الانساني  الفلسفي كما ارفادات افلاطون وسقراط وصولون وارسطو والمدراس الفكرية السياسية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معاني  . الديالكتيك هي كلمة يونيانية تعني الفلسفة الكلاسيكية والجدل والمحاورة تبادل الحجج والجدال بين طرفين دفاعا عن وجهة نظر معينة.

المراجع .

1- "تطور الفكر السياسي" للدكتور عدنان السيد حسين الجامعة اللبنانية .
2- دراسة
خليل اندراوس الفكر السياسي الماركسي حاجة تطبيقية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أبحاث ودراسات