الاثنين، 18 فبراير 2013

فلسطين ما قبل الميلاد حتى نهاية الحكم الروماني أ/ هاني جودة

بحث بعنوان/

فلسطين
ما قبل الميلاد حتى نهاية الحكم  الروماني

 اعداد / هاني جودة


عندما اعتلى الاسكندر المقدوني، الملقب بالكبير، عام 336 ق.م عرش مقدونيا، وكان يبلغ عشرين عاماً، جهز جيشاً ودربه على القتال وأعده بشكل جيد. وبحلول عام 334 ق.م قاد جيشه في حملة على للسيطرة على الفرس ومنطقة الشرق الأدنى القديم. كانت سلالة الفرس الأخمينيين تسيطر على المنطقة منذ عام 539 ق.م، ولكنها ضعفت وأنهكت، فسقطت كل مقاطعاتها الواحدة بعد الأخرى في يد الإسكندر الكبير: آسيا الصغرى، وسوريا، وفينيقيا، وفلسطين، ومصر، وبلاد الرافدين، وإيران وجزء كبير من الهند. بعد انتصار الاسكندر على الملك الفارسي داريوس الثالث (335-331 ق.م) في معركة إيسوس عام 333 ق.م، توجه إلى سوريا وفلسطين، حيث سيطر عليها، وكان ذلك بداية خضوع فلسطين بأكملها للحكم الهيلينستي. ومن الجدير بالذكر أنه لم يتدخل في الشؤون الداخلية للأقليات الدينية والعرقية في فلسطين. أيّ ما يعرف بالثورة المكابيّة) وعندما توفي الاسكندر عام 323 ق.م، انقسم قادة الاسكندر العسكريين الذين يعرفون باسم "الخلفاء " ثم تفرغوا لمحاربة بعضهم بعضاً في صراعات منهمكة عرفت بحروب الخلفاء، بهدف اقتسام الإمبراطورية الهلنستية التي تأسست تحت قيادته، حيث سيطر سلوقس الأول (المظفر) I (312-281 ق.م) مؤسس الدولة السلوقية في سوريا وعاصمتها أنطاكيا. أما بطليموس الأول (المنقذ) I (323-285 ق.م) فقد أسس الدولة البطليمية في مصر وعاصمتها الإسكندرية. وقد اندلعت حروب خمسة بين الدولتين السلوقية من جهة والبطليمية من جهة أخرى، وذلك بغية الإنفراد بالسيطرة على بلاد الشام (سوريا وفلسطين)، وقد عرفت هذه باسم الحروب السورية التي دامت حوالي اثنان وعشرون عاماً. وقد ذاقت فلسطين الأمرّين خلال هذه السنوات التي مرت ما بين وفاة اسكندر الكبير ومعركة إبسوس عام 301 ق.م (بين البطالمة والسلوقيون). أما فلسطين فقد كانت بين هاتين القوتين المتصارعتين، التي خضعت في نهاية المطاف للحكم البطليمي الذي شمل الفترة التالية: (منذ عام 301 ق.م وحتى عام 198 ق.م


الحكم البطليمي والسلجوقي (301- 166 "37" ق.م


وبشكل عام كانت أوضاع السكان في فلسطين خلال هذه الفترة صعبة لأن البطالمة كانوا يفضلون المواطنين الأجانب على السكان المحليين ومع ذلك فقد تمكن اليهود من الاحتفاظ باستقلالهم الذاتي معظم الوقت. وأطلق البطالمة على منطقة بلاد الشام اسم "اقليم بقاع سوريا-فينيقيا"، حيث أعادوا من جديد تقسيمها إدارياً. فقد أطلق البطالمة على الأقسام الإدارية التي قسمت الولاية على أساس إبارخيات (واحدتها إدارية) وكانت هذه ستاً. وفي عام198 ق.م تغلب أنطيوخوس الثالث السلوقي (223-187 ق.م) على البطالمة بزعامة قائدهم سكوبس الأيتولي ، في معركة بانياس ، التي أسفرت عن استيلاء البطالمة على بلاد الشام، التي أطلق عليها اسم استراتيغية (سوريا المجوفة وفينيقيا). هذا وقد أجرى السلوقيون شيئاً من التعديلات العامة في تقسيم الولاية الجديدة إلى أقسام إدارية، تسهيلاً للإدارة. وَبدأ من حوالي عام 198 ق.م. قسمت ولاية سوريا وفينيقيا إلى ثلاث وحدات إدارية استعمل لكل منها اسم "إبارخيه". لكن المهم ليس الاحتلال فحسب بل إن المكابيين (الحشمونيين) أرغموا سكان الجليل والأدوميين على اعتناق الدين اليهودي وفرضوا الختان على الرجال. وقد فعلوا مثل ذلك مع بعض المدن، التي آنسوا من أهلها رفضاً لطلبهم قتلوهم أو أجلوهم وأنزلوا اليهود مكانهم. بمثل هذه الأساليب يحاول حكام اليهود أن يهودوا شعب فلسطين، ولكن ذلك لم يتيسر لهم تماماً. أما المدن التي أَنزَل الحشمونيون فيها يهوداً فقد أخرجوا منها فيما بعد. وأما السكان فليس لدينا ما يدل على أن الآدوميون كانوا يهوداً تماماً. فاتصالهم المباشر بالأنباط كان يؤدي إلى عكس النتيجة المرجوة. وقد كان للبعض من الحكام المكابيين اتصالات بروما عاصمة الإمبراطوريّة الرومانيّة، وكان ذلك في حوالي عام 164 ق.م. ثم كانت هناك اتصالات أخرى خلال فترة حكم يونتان عام 146 ق.م. وبعد ذلك ببضع سنين تم اتصال ثالث في أيام يوحنا هيركانوس الأول (135-104 ق.م). وهكذا لما جاء الرومان إلى فلسطين كانت الصلات قائمة؛ لكن موقف بومبي كان خارج هذا الإطار الذي صاغه يهود القرنين الثاني والأول قبل الميلاد. وفي هذه الآونة توفي الملك السلوقي انطيوخوس الثالث عام 187 ق.م، وتسلم الحكم من بعده ابنه الملقب انطيوخوس الرابع.



الحرب الطائفية الأهلية الفلسطينية الأولى



أمر انطيوخوس الرابع تنفيذ أوامره التي ذكرت سابقاً فوراً وحدث أن وصل جنود الملك قرية موديعين إلى الشمال الغربي من مدينة القدس، وأقاموا مذبحاً في وسطها وجمعوا السكان حوله. توجه قائد الفرقة إلى متتياهو (ماتاتياس) (167/166 ق.م) الكاهن المحلي من الأسرة الحشمونية. ولكن أحد معتنقي الثقافة الهلنستية خرج من بين المتجمهرين واقترب من المذبح ليقدم القربان. فهجم عليه متتياهو وطعنه فارداه قتيلا. وعندها هجمت جموع الشعب على فرقة الجنود وقتلت أفرادها-وهدمت المذبح. هرب ماتاتياس وأبناؤه إلى الجبال، وهكذا بدأت الثورة المكابية. وحين أشرف ماتاتياس على الموت عين ابنه يهودا المكابي (165-160 ق.م) قائداً عسكرياً الذي حقق عدة انتصارات على القوات السلوقية. وقد أثار ذلك غضب الملك السلوقي فأصدر أوامره لقائد الجيش للقضاء عليهم. كما أصدر الملك أمراً آخر لقائد جيشه: ببيع اليهود الذين وقعوا في الأسر عند الملك السلوقي. وفي سنة 161 ق.م قتل يهودا وتسلم من بعده أخوه يونتان (160-143 ق.م) قيادة الجيش بدلاً منه. ولقد حاول يونتان أن يحقق استقلال لمملكة يهودا مستعيناً بروما عدوة السلوقيين تارة وبانتهاز فرصة الحرب الأهلية دي بلو سيفيلي De في سوريا والنزاع على السلطة في أنطاكيا تارة أخرى. ولكن هذه المحاولات التي دامت حوالي 17 سنة لم تنجح وفي سنة 143 ق.م قبض على يونتان أثر خديعة دبرها له أحد الحكام السلوقيين وقتل هو ومرافقوه في مدينة عكا، وبعد مقتله تسلم زمام الأمور أخوه سمعان. لقد دعا سمعان (143-135 ق.م) سكان يهودا إلى الامتناع عن دفع الضرائب للملك وأخذ يهاجم المدن الواقعة على الساحل فاحتل بعضها. وشدد الحصار على حصن حقرا في القدس حتى أخضعه وطرد السلوقيين منه. وهكذا حقق سمعان الاستقلال لمملكة يهودا وذلك بموافقة الملك السلوقي ديمتريوس الثاني نيكاتور (139-145 ق.م). وعندما وأخيراً قتل سمعان عام 135 ق.م (177 ق.م تقويم سلوقي) على يد زوج ابنته بطليموس بن أبوبس إذ أراد السيطرة على يهودا وذلك بتحريض من الملك السلوقي أنطيوخوس السابع (129-139 ق.م). ويذكر جيش روما الذي كان قد استنجد به أرستوبولوس الذي جاء يقوده القائد العسكري الروماني (106-48 ق.م) كان أكثر عددا. فكان النصر حليفه. ودخل بومبي القدس منتصراً عام 63 ق.م. وبهذا الفتح تم القضاء لا على الحكم الهلنستي فحسب، بل وعلى الغطرسة المكابية أيضاً. وما كان بومبي لينجح في هذه المهمة، لولا أن البلاد كانت منقسمة على نفسها، وأن الفوضى كانت تجتاحها من أدناها إلى أقصاها. وخلف هيركانوس الثاني أنتيغونس ماتاثياس (40-37 ق.م)- وهو بن أرستوبولوس الثاني- الذي ساعد الفرس على احتلال فلسطين، حيث عيّنه الفرس ملكاً على اليهودية، فكان آخر السلالة المكابية وانتقل الملك منهم إلى هيرودس الكبير.



الفترة الرومانية (63 ق.م-638م


يهدف هذا الفصل إلى إعطاء فكرة عامة عن تاريخ فلسطين منذ الحكم الروماني لفلسطين عام 63 ق.م وحتى نهاية العصر البيزنطي وبداية الفتح الإسلامي عام 638م، حيث يتفق العلماء على تقسيم العصر الرّوماني في فلسطين إلى ثلاث مراحل تاريخية مختلفة. إلاّ أنّ تحديد بداية ونهاية كل فترة ما زالت موضع بحث ونقاش، فهي على النحو التالي:



العصر الروماني المبكر(63 ق.م-135م

منذ بداية الحكم الروماني لفلسطين بقيادة بومبي (الملقب بالكبير) (106-48 ق.م) وحتى اندلاع ثورة باركوخبا -.
العصر الرّوماني الوسيط (135م-250م

ينتهي ببداية الأزمة الاقتصاديّة التي عصفت بالإمبراطورية الرومانيّة، وما نتج عن ذلك من فوضى في الفترة ما بين (235-285م). إذ توالى على حكمها حوالي ثمانية عشر إمبراطوراً شرعياً، متوسط حكم كل واحدٍ منهم لا يزيد عن ثلاث سنوات. إضافة إلى اضطهاد المسيحيّة على يد الأباطرة الرومان الوثنيين امثال: تراجانوس ديسيوس (249-251م)، وديوقليسيانوس (284-305م).



العصر الروماني المتأخر (250م-324م

وفي نهاية هذه الفترة أصبحت المسيحية الديّن الرسمي للّدولة البيزنطيّة. غير أن هناك من يعتقد أن نهاية هذا العصر تنتهي بوقوع الهزّة الأرضية التي ضربت المنطقة عام 363م. كما أنّ بعض الباحثين يعدون العصر البيزنطي جزءاً لا يتجزأ من العصر الرومانيّ. كما يطلق على المرحلة المتزامنة للعصر البيزنطي في القسم الغربي من الإمبراطوريّة الرّومانيّة اسم Late (أي العصر الرّوماني المتأخر أو نهاية العصور القديمة). والآن لابد من سرد لأهم الأحداث التاريخيّة والسياسيّة التي مرت بها فلسطين، وذلك من خلال التّقسيمات التاريخيّة التي ذكرت آنفاً.



العصر الروماني المبكر (63 ق.م-135م


بدأت الرومان يتدخلون في شؤون فلسطين منذ بداية القرن الثّاني قبل الميلاد؛ بسبب ضعف السلوقيين ودخولهم في حروب خارجيّة وداخليّة، بالإضافة إلى الاضطرابات التي أحدثها اليهود في فلسطين، ومن ثم انتصار الرومان على أنطيوخوس الثالث (223-187 ق.م) في معركة مغنيزيا عام (190 ق.م). وفي النصف الأول من القرن الأول قبل الميلاد أرسل بومبي وكيله ماركوس سكاوروس إلى سوريا سنة 65 ق.م. وفي تلك الأثناء كان الصراع دائراً على السلطة بين آخر أبناء ملوك السلالة الحشمونية وبالتّالي إعطاء بومبي الذريعة لاحتلال فلسطين عام 63 ق.م، وانهاء حكم المملكة الحشمونية. ونتيجة لاحتلال فلسطين فقد تمّ تدمير مدينة القدس وتخريبها بسبب الحصار الذي فرضه بومبي عليها. ومن جانب آخر، عين السناتور (مجلس الشيوخ الروماني) غابينيوس (55-57 ق.م) حاكماً ومنحه منصب القنصل الروماني العام لسوريا وفلسطين. إذ قدم من أجل مساعدة بومبي في حصار القدس. كما قام غابينيوس بتقسيم فلسطين إلى خمس مناطق إدارية. وفي أثناء فترة تشكيل الحلف الثلاثي الذي قام في روما وضمّ كل من بومبي، وقيصر (100-44 ق.م)، (115-53 ق.م)، جاء الأخير والياً على سوريا سنة 54 ق.م. وكان أكثر ما يهمه هو محاربة الفرس؛ ليضمن لنفسه مكاناً مساوياً، ولو نسبياً، لكل من بومبي وقيصر. لذلك نهب ولاية سوريا على أتمّ وجه؛ إذ قاد حملة عسكريّة عام 53 ق.م، لكنّه خسرها وقتل في المعركة التي خاضها مع العدو في كري أي في حران. وخلال الحرب الأهليّة ما بين قيصر وبومبي؛ فقد انتصر الأول على الأخير في معركة فرساليا عام 48 ق.م، وهرب بومبي إلى مصر، حيث أُغتيل هناك. لقد أعد قيصر ترتيبات إقليمية جديدة في فلسطين، فقد عين انتيباتر الآدومي حاكماً إدارياً على الولاية اليهوديّة ومعه أفراد العائلة الحشمونية أُمراء فيها. إلا أن ترتيبات قيصر هذه لم تدم طويلاً، فقد أغتيل في منتصف آذار (مارس) سنة 44 ق.م، بينما قتل أنتيباتر مسموما على يد منافسيه عام 43 ق.م. وتلى ذلك في النصف الثّاني من القرن الأوّل قبل الميلاد، قيام المملكة الفارسية في بلاد ما بين النّهرين وما وراءها باجتياح بلاد الشام وفلسطين (40-37م) خلال الفوضى التي أعقبت اغتيال قيصر في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية. إذ رحبت الأُسرة الحشمونية بالفرس بعد تقديم الرشوة لهم. وعين القائد الفرثي برزفرناس متثياس أنتيجونوس (37-40 ق.م)- آخر ملوك السلالة الحشمونية وابن أرستوبولوس- حاكماً على فلسطين ومديراً لها باسم الفرثيين. وكان على هيرودس أن ينجو بنفسه، فذهب إلى روما، إذ كسب صداقة ماركوس أنطونيوس (83-30 ق.م. وهكذا فإنّ مجلس الشيوخ في روما أعلن الملك هيرودس ملكاً على فلسطين عام 37 ق.م وتأسيس ممكلة تحكم فلسطين باسم الرومان، حيث استمر حكمه حتى وفاته عام 4 ق.م. تمتّع هيرودس الكبير بسلطة نافذه وثروة باهظة مكّنته من تحقيق رغبته في تبديل وجه فلسطين تبديلاً كاملاً وجعلها من الفخامة والجمال شبه مملكة هلنستية. وكان اليهود يكرهون هيرودس بالرّغم من أنه أمدهم بالمال والحبوب أثناء المجاعة التي أصابتهم عام 22 ق.م. رغم كل ذلك فقد كان اليهود يعتبرونه أجنبياً، ذلك لأنه كان يحب التقاليد الرومانيّة. وفي آخر سنة من سني حكمه، ولد السيد المسيح في بيت لحم. ولما كان هيرودس قد أمر بقتل كل طفل يولد في بيت لحم؛ فقد هربت به أمه، وهرب معها يوسف النجار إلى مصر، خشية أن يبطش به ذلك الملك. وفي السّنة التي تلتها مات هيرودس بعد أن عاش في دست الحكم أربعين عاماً تقريباً. شهدت مدينة القدس في القرن الأوّل الميلادي وقوع عدة حوادث هامّة، ومن أهم هذه الأحداث زيارة السّيد المسيح عليه السلام للمدينة في النّصف الأوّل من القرن المذكور، إذ كان عمره 12 عاماً. وحسب التّقليد الدّيني المسيحي، فقد صلب وأُعدم عيسى عليه السلام في مدينة القدس زمن الحاكم الروماني لفلسطين بيلاطس البنطي (36-26م). كما شهدت فلسطين في القرن الأول ميلادي اضطرابات وثورات وفتن ومناوأة أحدثها اليهود ضد الحكم الروماني، اضطر الإمبراطور فسبسيانوس (69-79م) إلى إرسال ابنه تيتس الذي كان آنذاك قائداً عسكرياً- إمبراطوراً في السنوات (79-81)- على رأس جيش كبير إلى بلاد الشّام ليقوم بتحرير مدينة القدس، فدخل المدينة. ومن جانب آخر فقد طرأت تغييرات كبيرة طرأت على الحدود الإداريّة لفلسطين، في الجهات الجنوبيّة والشرقيّة منها عندما تمّ القضاء على مملكة الأنباط على يد الإمبراطور الرّوماني تراجان (98-117م) عام 106م. إذ شيد ذلك الإمبراطور طريقاً يصل العقبة ببصرى، سميت فيا نوفا (الطريق الجديدة). هذا بالإضافة إلى تشييد طرق أخرى تربط القدس مع بقية المدن الفلسطينيّة. إلاّ أنّ أهمّ عمل قام به تراجان هو تأسيس المقاطعة العربيّة وعاصمتها البتراء. غير أنها استبدلت-فيما بعد-بالعاصمة بصرى الّتي أصبحت بدورها قاعدة عسكريّة للفرقة الرومانيّة الثّالثة البرقاوية التي جاءت من ليبيا. وهنا لابدّ من الإشارة إلى أنّ المعلومات التاريخيّة المتوفرة حول مدينة القدس في العصر الروماني، وبخاصة منذ تدمير المدينة على يد القائد الروماني تيتس سنة 70م وحتّى العصر البيزنطي في بداية القرن الرابع الميلادي نادرة وقليلة. ولا توجد معلومات كافية وروايات تاريخية معاصرة لهذه الفترة. إلا أنه يمكن إضافة بعض المعلومات وبخاصة فيما يتعلق بالجيش الروماني، حيث قامت الفرقة الرومانيّة العاشرة بتأسيس لها قاعدة عسكريّة على أنقاض مدينة القدس بعد تدميرها على يد تيتس عام 70م. إذ أخذت بالانسحاب من المعسكر -في القرن الثالث ميلادي- الذي كانت تخيّم به في الجهة الجنوبيّة الغربيّة من مدينة القدس، وتوجهت نحو مدينة العقبة التي كانت تشكّل الحدود الجنوبيّة للمقاطعة العربيّة، من أجل حماية الحدود من غزوات القبائل البدوية في بادية الشام. كما تم تأسيس في هذه الفترة قاعدة عسكريّة أخرى للفرقة الرومانيّة السّادسة بالقرب من تل المتسلم (مجدو). ومن الجدير بالذكر أن الإمبراطور هدريان (117-138 م) زار فلسطين عام 130م، وقرر بناء مستعمرة رومانيّة في القدس أطلق عليها اسم مستعمر رومانية عام 136م على أنقاض المدينة التي دمرت في عام 70م. واتخذ إجراءات صارمة ضد اليهود، فقد منعهم من الإقامة في مدينة القدس، وحتى من زيارتها، وأسس مقاطعة الفلسطينية-السورية بروفينسيا سيريا بالايستينا. ونتيجة لسياسة هدريان، فقد تضاؤل عدد سكانها من اليهود بسبب قتل الكثير منهم وتهجيرهم ومنعهم من دخولها وبيعهم كعبيد. لذلك بقيت المدينة خالية منهم، وأصبحت تدريجياً مدينة وثنيّة للسّكان القادمين من باقي أنحاء الإمبراطورية الرّومانيّة. ب. العصر الروماني الوسيط والمتأخر (135-250-324م بشكل عام شهد القرن الثّاني وبداية القرن الثّالث ميلادي ازدهاراً، حيث عمّ السلام والأمن الروماني في المنطقة باكس رومانا. إذ أنشأت مدن رومانية جديدة (مثل: بيت جبرين، وعمواس، والّلد، ورأس العين ، ومدينة اللجون في نهاية القرن الثّالث). إضافة إلى ذلك فقد شيدت الكثير من قنوات المياه وفتح عدد كبير من الطرق الجديدة ما بين المدن الفلسطينيّة الرومانيّة، بحيث استكمل بناء المدن وتعمير البلاد خلال هذه الفترة. لقد زار الإمبراطور سبتيموس سبفيروس (193-211م) مدينة القدس وأكّد على أهميّة المدينة ومكانة سكانها، إذ خلدت هذه الزيارة عن طريق إصدار نقود رومانية خاصة. هذا بالإضافة إلى وضع قوانين صارمة تمنع اليهود من دخول القدس والإقامة بها كما فعل من قبله هدريان، وبالتّالي تشتيت اليهود في جميع أنحاء العالم، ولم تقم لهم قائمة بعد هذا التاريخ، إلا في عام 1948 عندما تم الاعتراف بإسرائيل كدولة من قبل الدول الاستعمارية الكبرى ومدعومة من طرف الحركة الصهيونية العالمية. وفي عام 212 م أصدر كاراكالا (211-217م) قانوناً (مرسوماً) بموجبه منح جميع السكان الأحرار الخاضعين للحكم الروماني الجنسّية الرومانيّة (المواطنة). وعرف هذا القانون (المرسوم) باسم كونستيتوتيو انطونينيانا وبالتّالي حصل سكان فلسطين بموجب هذه القانون على الجنسّية الرّومانيّة. والسّبب الرئيس من وراء إصدار مثل هذا النوع من القوانين، زيادة عدد الأفراد الذين يدفعون الضّرائب لخزينة الدّولة. بالإضافة إلى الحاجة إلى عدد كبير من النّاس، لكي يخدموا في الجيش الروماني، بعد أن كانت الخدمة في السابق مقتصرة على الذين يحملون المواطنة الكاملة. ولم تتأثر فلسطين كثيراً بسبب أزمة القرن الثالث الميلادي التي عصفت بالإمبراطورية الرومانيّة منذ استلام ماكسيمينيوس الحكم عام (235-238م) وحتى موت كارينوس (283-285م)، حيث عمت الفوضى والاضطرابات، وكانت الإمبراطورية تتعرض لهجمات عنيفة من الخارج والداخل، من الخارج على أيدي القبائل الجرمانية والسلافية المختلفة في الغرب وعلى أيدي الدولة الساسانية التي خلفت الدوّلة الفارسية سنة 226م في الشّرق. أمّا من الداخل فقد هزتها ثورة مملكة تدمر، والجيش الذي كان عليه أن يدافع عن الإمبراطورية كان يشغل بين الحين والآخر في توليه إمبراطور أو خلع إمبراطور آخر.




القدس خلال الحكم البيزنطي (324 م-634م


يعدّ العصر البيزنطي في فلسطين امتداداً لفترة الحكم الرّوماني التي سبقته (63ق.م-324م). ولكن الإدارة الجديدة اتخذت الدّين المسيحي منذ بدايتها العقيدة الرسميّة لها. ونظراً لأهميّة فلسطين بصفتها الأرض التي نشأ بها عيسى عليه السلام وأُمّه مريم العذراء، وأدى رسالته. فقد صار لها مركز متميز وأهمية خاصة في هذا العهد الجديد. فقد اعتنق قسطنطين الأوّل مؤسس الدّولة البيزنطية الديّن المسيحي، وجعله دين الدّولة الرسمي. كما اعتنق الدين الجديد والدته هيلينا ، الّتي أولت فلسطين اهتماماً خاصّاً، إذ زارت فلسطين سنة 336م للتبرك بزيارة أماكنها المقدسة، واختارت مواقع كنيسة المهد في بيت لحم، وكنيسة القيامة في القدس، وكنيسة إيليونا على جبل الزيتون. وربما شيّدت هذه الكنائس من أجل تخليد ذكريات الولادة، والقيامة، والمعراج من حياة المسيح. وبنى قسطنطين كنيسة محل دفن المسيح وهي كنيسة القيامة، وثانية على جبل الزّيتون بالقدس وهي كنيسة العروج. إلى جانب كنيسة المهد في بيت لحم وتلك عند ممرٍ في الخليل. لقد أدى تشييد الكنائس في فلسطين من قبل الإمبراطور وأمه هيلينا إلى تحويل فلسطين إلى مركز فني هام. أما سياسياً فقد وقعت اضطرابات في فلسطين في عام 343م ضّد أفراد الجالية اليهودية ُقتل خلالها الكثير من اليهود والسّامريين واليونانيّين. فقد حذا قسطنطين حذو الأباطرة الرومان امثال: هدريانوس، وسبتميوس سيفيروس، فمنع اليهود سنة 335م من التبشير بينهم، وذلك بسبب الفساد الذي كانوا يعيثون به. وقد منع قسطنطين اليهود من العيش في القدس أو المرور بها، وهو تأكيد لقرار هدريان السّابق، يظهر أنّه سمح لهم بزيارة موقع المعبد ليوم واحد من كل سنة وهو التّاسع من آب (يوم تدمير المعبد). وقد أُلغى التحريم هذا في القرن التّالي وذلك بتوسط الإمبراطورة ايدوكية أرملة الإمبراطور ثيودوسيوس الثّاني (408-450م) واستطاع اليهود من السكن في المدينة مرة أخرى. كما حصل اليهود على دعم آخر في الفترة ما بين (361-363م). عندما خطط الإمبراطور البيزنطي جوليان الجاحد إعادة بناء المعبد اليهودي في مدينة القدس، وعهد بهذه المهمة إلى البيوس. إلاّ أنّ فكرته هذه لم تلق نجاحاً بسبب الحروب وموت الإمبراطور صاحب الفكرة. وبالتّالي تجديد القانون-فيما بعد- الذي يمنع اليهود بموجبه من دخول القدس، وبخاصّة بعد التسّاهل معهم من قبل الإمبراطور المذكور سابقاً. وفي سنة 395م وبعد وفاة الإمبراطور ثيوديسيوس الأول(379-395م انقسمت الإمبراطورية الرومانية بين ولديه هونوريوس (395-423م) وأركاديوس (395-408م) فتولّى الأول الإمبراطورية الرومانيّة الغربيّة وعاصمتها روما، وأما أركاديوس فقد تولّى حكم الإمبراطورية الرومانيّة الشرقيّة (الدولة البيزنطية) وعاصمتها بيزنطة (القسطنطينية)، وتضمّ بلاد الشّام بما فيها فلسطين. وبعد ذلك بسنوات، أي في الفترة ما بين 397-400م قسمت فلسطين إلى ثلاث مناطق ادراية، وهي: فلسطين الأولى وعاصمتها قيسارية. وفلسطين الثانية وعاصمتها بيسان ، وفلسطين الثالثة وعاصمتها البتراء

. وفي عام 484م ثار السامريون في عهد زينو (474-491م، حيث نصبوا يوستوس ملكاً عليهم. وفي النهاية، ألحق بهم زينو هزيمة قاسية؛ واتخذ إجراءات قاسية ضدهم، وبنى كنيسة فوق مذبحهم على قمة جبل جرزيم في مدينة نابلس. إلاّ أنّهم عادوا ثانية بالثّورة على البيزنطيين عام 529م في عهد جستنيانس الأول. وكانت ثورتهم هذه المرة بقيادة ملك يدعى يوليانوس إذ الحقوا أضراراً بالغة بالكنائس. وفي منطقة القدس دمّروا الكنائس في عمواس (اللّطرون حالياً)، وبيت لحم؛ وقتلوا عدداً كبيراً منهم في أحيائهم. واستطاع أخيراً جستنيانس إخماد ثورتهم فاستتب الأمن. وخلال أهم المراحل التاريخية التي مرت بها فلسطين، فقد اجتاحت الدولة الفارسية لفلسطين عام 614م، قاد ذلك الاجتياح كسرى الثّاني ملك الفرس (590-628م)، حيث تعرضت مدينة القدس لحصار استمر لمدة 20 يوماً. هذا وقد ساعد يهود منطقة الجليل الفرس في احتلال فلسطين، بحيث يقال أنّهم قد أمدّوا الفرس 20 ألف جندي وقيل 26 ألف جندي. ويبدو أنّ البطريريك زكريا (609-632م) أراد أن يقبل بشروط الاستسلام التي عرضت عليه من قبل الفرس، إلاّ أنّ بعض سكان المدينة أصرّوا على المقاومة، وأسفرت عن احتلال المدينة بقوة السلاح، وحرق عدد كبير من الكنائس والأديرة، وقتل الآلاف من السّكان المسيحيين وقادتهم. وبعد ذلك بوقت قصير، باشر البطريرك موديستوس (632-634م) من ترميم بعض الكنائس المهدّمة، وبخاصة كنسية القبر المقدّس. إلا أنه وبعد مرور أربعة عشر عاماً استطاع الإمبراطور البيزنطي هرقل (610-636م) أن ينتصر على الفرس في معركة حاسمة بالقرب من نينوى بالعراق عام 628م ويستعيد القدس. قال تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. (سورة الروم، الآيات من 1-3). صدق الله العظيم. وبعد هذا التاريخ قام هرقل بإعادة بناء الكنائس الّتي خرّبها الفرس. وكان لابدّ لهذا الإمبراطور من التعامل مع اليهود الذين قتلوا من مسيحيي القدس أكثر مما قتل الفرس أنفسهم، فقام بقتل بعضهم وطرد الآخرين منهم ولم يسمح لهم بالاقتراب لأكثر من ثلاثة أميال من القدس. وفي عام 620م، وقعت معجزة الإسراء والمعراج، فأسري بالنّبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ومن فوق الصخرة بدأت رحلة الصعود إلى السموات العلى. قال تعالى: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى، الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ، لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ". (سورة الإسراء، آية رقم 1) صدق الله العظيم. لم يستمر الحكم البيزنطي لفلسطين طويلاً. إذ التقت القوّات العربيّة الإسلاميّة مع البيزنطيّة في معركة اليرموك عام 636م، وكانت نتيجتها هزيمة القوّات البيزنطيّة. وأخيراً، ينتهي هذا العصر في فلسطين عام 16ه/638م عندما فتح الخليفة عمر بن الخطاب مدينة القدس وتسلم مفاتيحها من بطريركها آنذاك صفرونيوس (634-638م)، وبعد ذلك تبدأ صفحة مجيدة من تاريخ القدس الشريف بدخول العرب والمسلمين إليها ونشر الدين الإسلامي فيها الذي أصبح فيما بعد وحتى الوقت الحاضر ثقافة ودين الغالبية العظمى من سكان فلسطين.






المصادر /
1- تاريخ شرق الأردن وقبائلها...فردريك بيك
2- تاريخ جبل نابلس والبلقاء,,إحسان النمر
3- الدباغ, مصطفى مراد: بلادنا فلسطين, 11 مجلدا, بيروت 1976
4- تحولات جذرية في فلسطين, د. كامل جميل العسلى, عمان 1988

أبحاث ودراسات