السبت، 16 فبراير 2013

صراع الأخلاق وايديولوجية قيادة المجتمع بقلم / هاني جودة

صراع الأخلاق وايديولوجية قيادة المجتمع


بقلم / هاني جودة
تشغل مشكلة العلاقة بين الأخلاق والدين حيّزاً هاماً في علم الأخلاق وفلسفتها، فالأخلاق والدين يشكّلان مظهرين من مظاهر الوعي الاجتماعي في كل المجتمعات التي عرفتها البشرية خلال رحلتها الزمنية الطويلة، والحقيقة التي تؤكد هذه الفكرة هي أن أشهر المطالب الأخلاقية قد صيغت، للمرّة الأولى، في إطار المذاهب الدينية؛ ولذا نرى أنه من الواجب على الإنسان - حتى ولو لم يكن على درجة عالية من الإيمان - أن يعترف بالدور الإيجابي الذي لعبه الدين في تطور وعي البشرية الأخلاقي. وعندما نتحدث عن علاقة الأخلاق بالدين، لا يعني هذا أن العلاقة بين الأخلاق وبين بقية نشاطات الحياة معدومة، فهناك الكثير من الدراسات حول علاقة الأخلاق بالسياسة، وحول علاقة الأخلاق بالعلم، وأيضاً هناك دراسات مستفيضة حول الأخلاق والفن، وحول الأخلاق والحقوق، إلى غير ما هنالك من فعاليات ونشاطات اجتماعية أخرى. إذا كنّا قد افتتحنا بحثنا بالكلام عن الأخلاق والدين، فإنما قمنا بذلك لأن العلاقة القائمة بينهما تعتبر من أقوى العلاقات، بالإضافة إلى أن الكثير من المفكرين والفلاسفة يعتقدون أن علم الأخلاق هو المولود الشرعي لعلم الأديان والشرائع. وهنا يبرز أمامنا السؤال التالي: إذا كان علم الأخلاق هو الابن الشرعي لعلم الشرائع، فلماذا نرى تلك الصراعات في قضية فرض المبادئ الأخلاقية على جماعة أو مجتمع ما؟ من أين نشأ هذا الصراع، وما هي طبيعته؟. إن مصدر الصراع في الأخلاق والمُثُل الأخلاقية هو نفس المصدر الذي يسبّب الصراع الدينيّ بين أجنحة الأديان المختلفة، ولكن الشيء الذي يضاف إلى ذلك هو أن علم الأخلاق يبدو في طبيعة تركيبته الأيديولوجية أكثر ميلاً للتصنيف في قائمة العلوم (التقديرية) وليس في قائمة العلوم (التقريرية). فالأخلاق والمفاهيم الأخلاقية، عموماً، يُنظرُ إليها كما يُنظر إلى لوحة رسم داخل جدران متحف كبير يغصُ بالزائرين الذين يتفاوتون بدرجات ثقافتهم الفنية والاجتماعية، بالإضافة إلى تفاوتهم بطبيعة أعمالهم وبيئاتهم وتربيتهم الأسرية، فكل زائر من أولئك الزائرين سينظر إلى اللوحة الفنية من وجهة نظره الخاصة المرتبطة بمنظومة أفكاره التي يختزنها بداخله؛ ولذا فقد يركز هذا الزائر كل انتباهه على لون البحر وصفاء مائه دون أن ينتبه كثيراً إلى حمرة السماء عند الغروب. وهو قد يفعل هذا لأن طبيعة عمله وطبيعة فكره تفرضان عليه الانتباه إلى الماء أكثر من غيره، باعتبار أن عمله كبحّار يقتضي منه أن يراقب لون البحر وحركة أمواجه وصفاء مائه. ورُبّ زائر آخر سيركز جل انتباهه على الأبنية الشاهقة الملاصقة للميناء البحري المرسوم في اللوحة، وإنما يفعل ذلك لأنه مهندس معماري، ومن طبيعة عمله أن يراقب أشكال وارتفاع ودقة بناء المنشآت المعمارية حيثما كانت، سواء كانت موجودة في فيلم سينمائي أو على أرض الواقع أو من خلال لوحة فنية. إذاً، فالمفاهيم الأخلاقية كاللوحات الفنية كُلّ يراها من وجهة نظره الخاصة، وإن كان هناك اتفاق على الخطوط العريضة لهذا المفهوم أو ذاك، فكلّ المذاهب الأخلاقية تنادي بالصدق، وتحضّ على العدل، وتؤكد على عدم السرقة، وعلى عدم الاعتداء على حقوق وأعراض الناس. نعم، كل هذا صحيح، ولكن المشكلة هي أن كل تيار من التيارات الأخلاقية له وجهة نظر خاصة في طريقة وحدود تطبيق هذه المبادئ، ومن هنا بدأ الشقاق في صفوف المُنادين بتطبيق مبادئ الأخلاق على كافة أنشطة الحياة وفعالياتها المختلفة. لا يشك أحد في أن السرقة عمل لا أخلاقي وسيبقى هذا العمل اللاأخلاقي لا أخلاقياً في المستقبل كما كان حاله في الماضي. فالسرقة سرقة، ولكن ألا يمكننا أن نأخذ بعين الاعتبار أحياناً بعض الظروف الشخصية أو الاجتماعية المحيطة بالسارق، والتي لعبت دوراً ما في دفعه إلى السرقة؟ ألا يمكننا في هذه الحالة تبرير ما قام به من عمل ولو بشكل جزئي؟! إن ما يقال عن هذا المثال، وما يمكن أن يتشعب عنه من آراء ومواقف، يمكن أن يعمم على بقية المفاهيم الأخلاقية، وبالتالي سينشأ عندنا، على الأقل، موقفان متباينان؛ فالموقف الأول هو موقف التيار المتشدد المتزمت، أما الموقف الثاني فهو موقف التيار المعتدل والمنفتح على الحياة وعلى طبيعة التغيّرات فيها. وقبل الخوض في طبيعة الصراع بين هذين التيارين، لا بد لنا من الوقوف ولو يسيراً على دور الأخلاق العامة في التغيير. إن مجموعة القيم التي يعتمد عليها المرء في حياته تغطي مساحة عظيمة من أنواع السلوك الاجتماعي؛ فهي الهوية السلوكية للفرد من جهة، وللمجتمع كوحدة متكاملة من جهة ثانية، ولا يشك ذوو الألباب في حقيقة أن الارتباط بالمفاهيم الأخلاقية بالشكل الوثيق هو المعبر العريض للدخول إلى عالم الرقيّ والتحضّر. فالبلدان المتقدمة صناعياً وتكنولوجياً ولا تحكمها القوانين الأخلاقية من خلال العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القائمة بين أفرادها وسلطاتها، هي بلدان تتجه في خطّ سيرها نحو الهاوية، لأنها في محصّلة الأمر تدفع بأبنائها إلى تمزيق العلاقات الإنسانية الأخلاقية فيما بينهم. فالفرد الذي تحكمه الآلة التي يعمل عليها أو المصنع الذي يعمل فيه، هو إنسان تحوّل إلى أسير أمام آلته، بفعل غياب الروابط والقوانين الأخلاقية التي كان من الواجب أن تحكم وجوده بدلاً من الآلة. بينما البلدان التي تجعل الإنسان هو الغاية في مسيرة الحياة، وترفع من شأنه اجتماعياً وأخلاقياً، هي البلدان المتحضّرة حقاً، لأنها تقوم على ربط الإنسان بالأخلاق، ولأنها تجعل من الآلة الصناعية المتطورة عبداً للإنسان وليس العكس. وهنا أيضاً يمكن أن نذكّر بأن خضوع المفاهيم الأخلاقية للمعايير النسبيّة من شأنه أن يولّد نتائج متضادة في قيادة المجتمعات، ما لم يتم إخضاع تلك المفاهيم للدراسات المعمّقة على ضوء تطورات المجتمع وتجدد حاجاته. وقد سبق القول بأن هناك أكثر من تيار يمكن له أن يزاحم التيارات الأخلاقية الأخرى على قيادة وسيادة المجتمع، ولو أردنا استعراض أول هذه التيارات، فسوف يقع اختيارنا على التيار المتشدّد والمتزمت في تعامله مع المنظومة الأخلاقية، التي يريدها أن تحكم المجتمع من خلال سيطرتها على جميع أفراده. إن أتباع تلك المنظومة الأخلاقية يريدون للمجتمع أن يبقى من خلال تزمّتهم الشامل، ضمن حيًز المفهوم النظري للأخلاق. ولو أخذنا المجتمع الإسلامي كمثال على كلامنا هذا، للاحظنا أن هناك أكثر من فريق ضمن التيار المتزمّت ذاته، وهذه التيارات المتزمّتة لا تخدم بمجملها المجتمع الإسلامي، ولا تسعى لتفهّم احتياجات الفرد المسلم في عالم سريع التغيير والتغير. والمشكلة الكبرى التي يقع فيها هذا التيار هي محاولته الدّؤوبة لفرض القيم الأخلاقية على أفراد المجتمع بالقوة والعنف. ومن المعروف تماماً في علم النفس الديني، أن الأخلاق التي تُفرض بالقوة تبقى أخلاقاً هشة قابلة للانحلال سريعاً، لأنها لا تدخلُ النفوس البشرية بقناعة، حيث لا تستقبلها تلك النفوس عن طيب خاطر. وإذا كان المفهوم الإيماني هو أرقى المفاهيم الأخلاقية وأشملها، باعتبار أن الإيمان يشمل المفاهيم الأخرى، كالصدق والشجاعة والتواضع والأمانة والصبر والانضباط والرحمة والإنصاف، وإلى ما هنالك من المفاهيم الأخلاقية المتفق على أهميتها وعلى ضرورة وجودها، فإن الإيمان ذاته لا يمكن أن يكون بالإكراه وحد السيف. وقد أكد الله سبحانه وتعالى على هذه الحقيقة في مُحكم تنزيله قائلاً: (وهديناه النجدين) ، ودعا إليها في أكثر من موضع في كتابه، ليبيّن للناس أن الدعوة للإيمان الذي هو رأس كل قيمة أخلاقية لا تكون بالعنف والتزمّت، بل يمكن أن تؤثر ويتفاعل معها الناس، عن طريق الكلمة الطيبة والحوار المفتوح مع الجميع، وعندئذٍ يمكن للمرء أن يختار ما يريد من قيم يبتغيها لنفسه سلوكاً ومنهجاً في مسيرة حياته، فعندما يخاطبنا الله قائلاً: (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً) فهذا يعني أن الإنسان يملك الحق في اختيار نظامه الأخلاقي الذي سيكون هو شخصياً المسؤول عنه في يوم ما، فعملية الإبداع الأخلاقي لا تأتي عبر فرض القيم على الآخرين بطريقة فوضوية غير مضمونة النتائج، بل هي في حقيقتها عملية تربوية تأتي من خلال إدراك المرء للمطلب الأخلاقي إدراكاً واعياً، وتنفيذ هذا المطلب لا بناءً على إلزام قسري، وإنما خضوعاً لصوت الضمير. فالعنف في فرض القيم لا يولّد إلا العنف والضعف، في حين أن الكلمة الحسنة قد تفعل فعلها الإيجابي في الإنسان أكثر مما تفعله عملية الإخضاع للقيم بالإكراه والقوّة، ولو لم يكن الأمر كذلك لما قال الله تعالى: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم). فلو كان العنف أو القوة هي المطلوبة في عملية التبليغ الأخلاقية لما حضّنا الله على أن ندفع بالتي هي أحسن أبداً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أبحاث ودراسات